ثورة مبارك البيضاء المطلوبة.. الأهداف والنتائج

لست أدرى لماذا نضيّع الوقت فى مساجلات صحفية حول ما إذا كانت الثورة التونسية يمكن أن تتكرر فى مصر أم لا؟! هذا الجدل العقيم يعكس موقف فريقين، الأول يريد عدم التقدم بالحياة المصرية إلى الأمام، لذا يحاول بكل الحجج إثبات أن هناك فروقاً جوهرية تحول دون تكرار الثورة فى مصر، أهمها نظام الدعم الذى يخفف على الفقراء معاناتهم، ويقلل شعورهم بالاحتقان، وأيضاً وجود حالة من حرية التعبير فى الصحف وعلى شبكات الإنترنت، تسمح للمعارضين بالتنفيس عن أفكارهم وفض شحنات التوتر فى نفوسهم، وهما أمران لم يشأ نظام الرئيس بن على السماح بهما.
أما الفريق الثانى فيدفع بكل طاقاته الفكرية فى اتجاه تكرار التظاهرات، بغض النظر عن الفوضى المدمرة التى يمكن أن تنتج عنها فى الحياة المصرية، وحيث إننى لا أنتمى إلى أحد الفريقين فكرياً، فإننى أختار طريقاً ثالثاً يهدف إلى دفع مصر إلى آفاق التقدم بعيداً عن المضاعفات الخطرة، وهذا الطريق هو مطالبة الرئيس مبارك بإطلاق ثورة بيضاء سلمية.
إن هذا الطريق الذى أختاره وألح عليه ليس حكراً على شخص أو مجموعة أشخاص، فهناك المئات من الأكاديميين ورجال السلك الدبلوماسى والصحفيين ورجال الأعمال قد اختاروا هذا الطريق ولبّوا الدعوة للانضمام إلى اللجان المتخصصة فى أمانة السياسات بالحزب الوطنى منذ عام ٢٠٠٢، تحت شعار الإصلاح من داخل النظام الحاكم. إن هؤلاء وألوفاً غيرهم يتمنون لمصر السلامة والاستقرار المبنى على التقدم الآمن، وليس الجمود والركود المشحونين بالخطر، ويتمنون النمو والرفاهية لشعب مصر بجميع طبقاته وأبنائه، وليس لشريحة قليلة العدد لا تزيد على المليون تسيطر على الحكم والإدارة والثروة الوطنية. إن أصحاب الطريق الثالث يتمنون أن يتم تصحيح السياسات والممارسات الخاطئة بواسطة عملية سلمية تقوم على التوافق والتراضى بين الحكم والمواطنين.
إننى لن أيأس من هذا الطريق الآمن، فلقد شرفت بالعمل فى لحظة تاريخية كبرى عام ١٩٧٣ تحت قيادة الفريق جوى محمد حسنى مبارك، عندما كلفت ضابطاً برتبة المقدم بالسلاح الجوى، وسمعت من الضباط والطيارين الكثير عن سماته القيادية الرفيعة. ولأننى على يقين من التصاق السمات الإيجابية بصاحبها، فإننى أطالب الرئيس بقيادة ثورة بيضاء لا تقطع رقاباً، بل تقوّم اعوجاج الرؤوس والعقول، ولا تبتر الأيادى، بل تستعيد حقوق الشعب ممن تعدوا عليها بالنهب، ولا تسفك الدماء، بل تطلق طاقات الإبداع بتوفير التعليم العصرى لكل أبناء مصر، لتمكينهم من فرص العمل والرزق، وبفتح الأبواب لتطبيق الأفكار الخلاقة القادرة على تطوير حياة المصريين، وتحقيق معدلات تنمية مرتفعة، وإنجاز ثورة إدارية تدير قدرات البشر المصريين العملاقة، وترفع من كفاءة الثروة البشرية المصرية، وتحسن استثمار رأسمال مصر البشرى لا أن تهدره فى بحار اليأس والبطالة والضياع الفكرى والمعنوى ومشاعر الظلم الاجتماعى المريرة.
ثورة بيضاء لا تسمح لأصحاب النفوذ بالاستيلاء على ثروات البلاد الطبيعية والمالية وتترك الملايين يعيشون على الفتات المسمى بالدعم. ثورة لا تسمح بأن يحصل موظف فى مؤسسات مملوكة للشعب على راتب يتجاوز المليون جنيه شهرياً، بينما يتقاضى الملايين من أبناء الطبقة الوسطى العاملة بالحكومة رواتب هزيلة لا تكفى لحياة شبه كريمة، ولا تمثل أجراً عادلاً عن أعمالهم، مثل أساتذة الجامعات والصحفيين والأطباء والمهندسين والإداريين والمدرسين والمحامين وغيرهم ممن يمثلون العمود الفقرى لوظائف الدولة وأمنها القومى. ثورة تضع معيار الكفاءة فى الوظائف العامة أساساً للتعيين، وليس معيار التبعية والمحسوبية والوساطة.
ثورة بيضاء يا سيادة الرئيس تحقق التقدم الحضارى لمصر، لتلحق بماليزيا والهند والبرازيل وتركيا وغيرها من الدول التى كانت أقل منا تقدماً، فأصبحت اليوم فى مقدمة موكب الحضارة العالمية بمعدلات نموها والارتقاء بأحوال شعوبها وبرفع مستويات الإنتاجية والدخول لدى أبنائها وبإتاحة مساحات واسعة من الحريات الديمقراطية والمشاركة السياسية لقواها الاجتماعية والأحزاب المعبرة عنها، وبتمكين العلماء وأساتذة الجامعة من أدوات العمل التعليمى والبحث العلمى المتقدم ومستويات الحياة اللائقة بالتفرغ العلمى واللازمة له.
أرجو أن يكون واضحاً أن هذا النداء للرئيس ليس نابعاً من محاكاة للحالة التونسية، فلقد عبرت عن مضمون النداء بانتظام فى عمودى الأسبوعى بصحيفة «الوفد» تحت عنوان (رؤية سياسية)، منذ عام ٢٠٠٢، ثم بمقالى نصف الشهرى بـ«الأهرام»، ثم فى الجلسة الأولى للجنة مصر والعالم بأمانة السياسات أمام السيد جمال مبارك، أمين السياسات، ورئيس اللجنة د. مصطفى الفقى، والأعضاء. لقد طالبت بمكافحة ثلاثية الفقر والفساد والاستبداد، كشرط ضرورى لتحسين مكانة مصر الدولية ودعم سياستها الخارجية.
لقد كان الكثيرون يضغطون حتى آخر اجتماع فى هذا الاتجاه، مثل الدكتور صبرى الشبراوى، صاحب مقولة «الاحتكار يقتل الابتكار ويؤدى إلى الانهيار» والذى طالب أمين السياسات بقيادة حملة لمكافحة الفساد وتطهير النظام أمام جميع الأعضاء فى الاجتماع المشترك للجان والأمانة، وكان الدكتور مصطفى الفقى دائماً مطالباً بالتوزيع العادل لثمار التنمية الاقتصادية وإشعار المواطن العادى بها، ويشاركه د. سمير رضوان وآخرون، وكان اللواء الدكتور أحمد عبدالحليم والسفير محمد بسيونى والدكتور اللواء محمد شفيق وآخرون فى مقدمة من صمموا على أن يشمل تعريف لجنة مصر والعالم المفهوم الأمنى القومى أبعاد التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية وتلبية حاجات المواطنين فى فرص العمل والأجر العادل والخدمات السكنية والتعليمية والصحية الميسرة.
وكان السفير عبدالرؤوف الريدى مطالباً دائماً بإطلاق الإصلاح الديمقراطى، وشاركه آخرون كثيرون من الأعضاء المخلصين لقضية النهضة المصرية الشاملة لصالح كل المصريين، والأمثلة فى هذا الباب لا تُعد ولا تُحْصى.
إن مطلب الثورة البيضاء السلمية القائمة على التوافق والتراضى بين النخبة الأكاديمية والثقافية والسياسية، هو إذن مطلب مصرى عريق، وإذا كانت أحداث الثورة التونسية تذكرنا به، فذلك يعنى أن النخبة المصرية مازالت حريصة على أمن مصر القومى بمفهومه الجامع بين حماية الحدود الخارجية وسلامتها، وبين ضمان التماسك الاجتماعى وتحقيق المساواة بين المواطنين وخلق مجتمع الإبداع والرفاهية للجميع.
إننى أطالب الرئيس بأن يصدر أوامره لجميع لجان أمانة السياسات بالعودة بنفس الحماس الأول إلى تدارس أهداف وآليات ونتائج الثورة البيضاء المطلوبة، ثم عقد جلسات استماع مشتركة بين أمانة السياسات وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدنى للتوافق على صناعة مستقبل أفضل لمصر عبر التوافق والتراضى السلمى الآمن والبناء.