<blockquote class="postcontent restore">
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الخامسة :
العمل الصالح يُنجي صاحبه
قاربت الشمس على المغيب ، وبدأ الظلام يرسل أول خيط له مازج الضوء الباهت
الذي آذن بالرحيل ، وبدأت الأنسام الباردة تخترق ثياب هؤلاء النفرالثلاثة
الجادّين في السير ، يريدون أن يصلوا إلى أقرب مأوى يقضون فيه ليلتهم هذه
، ثم يتابعون رحلتهم إلى هدفهم .
كانوا بعيدين عن القرى مسافات كبيرة ، قدّروا أنهم لن يستطيعوا الوصولَ
إلى أوّلها إلا بعد ساعات من مسير ليليّ غير محمود العواقب ، فقد يقعون في
حفرة ، أو يدعمهم سيل جارف ، أو يَفجؤهم مطر منهمر ، أو وحوش كاسرة ....
والليل لا عيون له ، والنهار آمَنُ وآنَسُ. فليبحثوا إذاً عن أقرب مكان
يلوذون به ...
ولم يطل بهم البحث ، فعلى مدىً يسير منهم ظهرت فجوة ترتفع عما حولها
قليلاً ... فجدّوا السير إليها ، وكانت مناسبة لهم ، ما إن دخلوها حتى
شعروا بالدفء يسري في أوصالهم ، والهدوءِ يَحوطهم ، والعتَمة تزحف عليهم ،
فاستسلموا لنوم لذيذ . وما ألذّ النوم بعد التعب ، والسكونَ بعد الحركة
... وغرقوا في أحلام وردية ، وتخيّلوا أنفسهم في مرابعهم ، وبين أهليهم ،
ولم يشعروا بما كان خارج كهفهم من ريح اشتدّت حاملةً السحاب الماطر الذي
أغرق المكان حولهم ، وحفر تحت صخرة كبيرة كانت أعلى الكهف ، فتدحرجت
بكلكلها ، لتستقر على باب الكهف ، فتوقعَهم في مأزق لا خلاص منه إلا أن
يشاء الله .
بدأت الشمس ترسل أشعتها إلى الكهف من خلال فجَوات صغيرة تدغدغ النائمين ،
وتوقظهم برفق ولطف ، وكأنها تقول لهم : يكفيكم ما أنتم عليه من غفلة ،
قوموا لتبحثوا عن خلاص من هذه المصيبة التي حلّت ، لا تدرون ما الله فاعل
بكم إذا ثبتَتْ في مكانها ... هيا انهضوا فادفعوها ، واسألوا الله العون ،
والتمسوا رحمته .
إنهم يتحركون ، لقد شرَعت الحياة تدب فيهم ، فتمددت أوصالهم هنا وهناك
يمنة ويسْرة ، فحمد أولهم ربّه أن أحياه بعد ما أماته – ولمّا يقم – وشكر
الثاني ربّه على نعمة الأمن والأمان – ولمّا يفتحْ عينيه – وصلى الثالث
على موسى وهارون اللذَين هداه الله بهما بعد أن ذكر الله ونهض ... ولكن
أين النور المنبثق ؟ أين الضياء يملأ المكان؟ .. كلها تساؤلات فرضتْها
اللحظة التي رأى جوّ الكهف فيها خانقاً ... هيّا يا صاحبيّ ، أنا عاجز عن
فهم ما جرى ... نطقها سريعاً ، فقفزا فوراً كأنهما في سباق ، يستكشفان ما
حلّ بهم ، ويتعرّفان الموقف ، ففوجئا بما فوجئ به صاحبهما آنفاً .
اندفع أحدهما نحو الصخرة ليبعدها عن الباب ، فارتدّ خائباً ... عاود
الأمرَ فانتكس ، جرّب صاحباه ، فلم يُفلحا ، وأنّى لمخلوق ضعيف أن يزحزح
وتداً عظيماً من أوتاد الأرض ؟!
تكاتف الثلاثة وأجمعوا قوّتهم ، وهاجموا الصخرة بعنف ارتدّوا عنها بمثله ،
أو أشدّ . فلما يئسوا من زحزحتها ، ورأوا الموت المرعب يُطِلّ عليهم من
بين فروضها عادوا إلى أنفسهم يفكّرون ، وعن مخرج مما هم فيه يبحثون .
وشاء الله الرحيم بعباده أن ينجّيَهم ، فألهمهم الدعاء له ، والالتجاء
إليه . أليس سبحانه هو القائل : " وقال ربكم ادعوني أستجِبْ لكم "؟ ! ..
بلى والله .. يا من يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء ؛ نجِّنا برحمتك
يا أرحم الراحمين .
وبدا الثلاثة يجأرون بالدعاء ، وكانوا صالحين ، فهداهم الله أن يسألوه
بأفضل أعمالهم الخالصة لوجهه الكريم ، التي ليس فيها مُراءاة ، ولايبغون
بها سوى رضا الله وجنّته .
قال رجل منهم : كنت بارّاً بوالديّ ، أكرمهما ، وأفضّلهما على أولادي
وزوجتي ، وأجتهد في خدمتهما . وعرف أهلي فيّ ذلك فساعدوني . وكان من عادتي
أن أسقيهما الحليب عِشاءً قبل الجميع ، فتأخّرت مرة في حقلي ، أقلّم
الأشجار وأعتني بالزرع ، ثم رُحت أحلب غبوقهما ، وانطلقتُ أسقيهما ،
فوجدتهما نائمَين ، فكرهت ان اوقظهما ، وان أغبق قبلهما أحداً من الأهل
والرقيق ، والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى بزغ الفجر ، والصبية حولي
يتضاغَون من الجوع ، ويصيحون عند قدمي ، وهم فلذة كبدي ، فتشاغلتُ عنهم
حتى استيقظا فشربا غبوقهما ، ثم سقيت أهلي وخدمي .... اللهم إن كنتُ فعلتُ
هذا ابتغاء وجهك الكريم ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة .. فانفرجت
الصخرة شيئاً لا يستطيعون الخروج منه .
وقال الثاني : أما أنا فقد كنت ميسور الحال ، أحيا رغداً من العيش ، وليَ
ابنة عمّ جميلة المُحيّا ، بهيّة الطلعة ، أحبها ، وأرغب فيها ، فراودْتها
عن نفسها ، فأبَتْ ، وبذلتُ لها المال ، فتمنّعتْ ، أغريتها بشتّى الوسائل
، فلم أنل منها ما أبتغي . فحبست ألمي وحسرتي في نفسي ، لا أنفرج إلا إذا
نلتُها . ثم واتت الفرصة إذ جاءتني في سنة جديبة تطلب المساعدة من ابن
عمّها على فقرها ، فراودتني نفسي على إغوائها ، واغتنمت حاجتَها وبؤسَها ،
فأعطيتها مئة وعشرين ديناراً على أن تخلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعَلَتْ
... يا لهف نفسي ، ويا سعادتي ، إنني قاب قوسين أو أدنى إلى اجتناء ثمرة
صبري ... هاهي بين يدَيّ ، بل إنني منها مقام الزوج مكان العفة من زوجته ،
والشهوة تنتفض في كل ذرّة من جسمي ... قالت والدمع يملأ مآقيها ، والحزن
يتملّكها : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقّه . فالاتصال الزوجي قمة
السعادة ، والحلال مَراحُ النفس وأُنسُ الروح ، أما الزنا فلذّة اللحظة ،
وندم الحياة ، وذلّ الآخرة . .. دقّ قلبي رافضاً ، وختلجت أوصالي آبية
الوقوع في الإثم ، ورأيتُ بعينَيْ قلبي غضب ربي ، فقمت عنها منصرفاً ،
وتركت لها المال راغباً في عفو الله ومرضاته . .. اللهم ؛ إن كنتُ فعلت
ذلك ابتغاء وجهك الكريم فافرُج عنا ما نحن فيه .... فانفرجت الصخرة ، غير
أنهم لا يستطيعون الخروجَ منها .
وتقدّم الثالث ، فقال : اشتغل عندي عدد من الأُجراء ، وأعطيتُهم أجرَهم
غير واحدٍ ترك أجره وذهب . فقلت : في نفسي : قد ترك الأجير حقه ، فانا
أولى به . وقال لي الشيطان : ليس له عندك شيء .. وتحرك الإيمان في قلبي ،
فأمرني أن أحتفظ بأجره ليأخذه إن عاد ... ارتحت لهذا القرار ، فأمرني
إيماني ثانية حين رأى تجاوبي للخير : بل ثمّر له أجره . .. فأشركتُه في
عملي حتى كثرت الأموال والإبل والبقر والغنم والرقيقُ ، وملأ المكانَ .
فجاءني بعد حين فقال : يا عبد الله ؛ أدِّ إليّ أجري . فقلت : كلّ ما ترى
في هذا الوادي لك ، فخذه . فقال الأجير : أتهزأ بي ؟! أهذا جزائي منك حين
انشغلتُ ابتداءً فلم آخذ حقي ؟! فقلت له : إني لا أستهزئ بك ... وأخبرتُه
أنني جادٌّ في قولي ، فقد ثمّرتُ أجره . فلما وثقَ صدقَ حديثي أخذ ماله
وانطلق ، فاستاقه ، ولم يترك منه شيئاً . .. اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء
وجهك ، فافرج عنا ما نحن فيه .. فانفرجت الصخرة ، فخرجوا يمشون . </blockquote>